أما المعصية فتدفعني لها نفسي دفعًا حتى إنني واقعت أنواعًا من المعاصي مرارًا في شهر رمضان، فعيني تخطّت ستار المعروف، واجتالت في حرمات الله تعالى، وأذني أبتْ إلا أن تتجاوز حدها الشرعي، فانتهكت ما حرم الله، ونفسي التي بين جنبيّ جاهدتها كثيرًا فكابرت ومانعت واستعصت علىّ، بل ما زالت بي حتى أوقعتني في الفاحشة...
وما زال يحدِّث حتى انْهَار باكيًا، واستعبر أمامي في البكاء، وأخذ يردد أثناء حديثه: أخشى أن لا أكون ممن غفر الله لهم أو تقبّل منهم، أخشى أن يختم الله لي بخاتمة السوء! فأصبح أسير أحزاني! أنا لست وحيدًا في طريق اليأس، فكثير من الشباب أمثالي. فما زلت به أخفف عنه هذه الآلام حتى عاد يسمع حديثي من جديد، فقلت له: أخي الشاب، ما زال في الأمل فسحة، وفي الوقت بقيَّة، والعبرة بالخواتيم. وأنا وإياك نشهد هذه العشر المباركة، فهل يمكن أن تضع يدي في يدك وتعاهدني على المسير؟ فقال: أي والله مسير يعيد لي الفرحة والبسمة في حياتي من جديد لِمَ لا أقبل به؟ ولم لا أعيشه وقد عشت كل معاني الحرمان في المعصية والدأب عليها؟
فقلت له: أقبلْ -حفظك الله- إلى حديثٍ، أرعني سمعك، وجُدْ عليَّ بشيء من وقتك، فعندي سر السعادة التي تنتظرها، عندي لك قول الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. دواء للمنكسرين من أمثالك، لكن بشرطها الوحيد: التوبة الصادقة التي رأيت من آثارها أثر الدموع بين عينيك.
وعندي لك قول رسولك :
"لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح"[1].
إذن لم يبق عليك -حفظك الله-
إلا الإقبال على ما بقي من شهرك؛ إذ هذه الأيام هي الخاتمة، وهي سر الشهر وأفضل أيامه على الإطلاق، فهذا رسول الله تقول عنه عائشة رضي الله عنها: "كان النبي إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر". ولك في رسول الله أسوة حسنة. هذه الليلة العظيمة التي قال فيها رسول الله : "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"[2].
وقد أخبر الله عن هذه الليلة أنها خير من ألف شهر في كتابه المبين، فقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3]. وأخبر رسول الهدى أن هذه الليلة في ليالي العشر، حين قال : "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان". أقبلْ على عشر رمضان -حفظك الله- بكل جهدك وقوتك، واحرص على أن يكون ختام شهرك ختامًا حيًّا مباركًا تُزوّد فيها بالطاعات، احرصْ على الفريضة مع الإمام، واللهَ اللهَ أن يشهد الله عليك أو حتى أحد من خلقه تخلُّفًا عن الجماعة بنوم أو كسل، الزم النافلة القبلية والبعدية، واحرصْ على أداء صلاة التراويح والقيام مع جموع المسلمين، ولازم فيها دعاء: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني؛ فهي وصية رسول الله لأم المؤمنين. أكثرْ من قراءة القرآن، ونوِّع في القراءة ما بين حدرٍ وترتيل، ولتكن عنايتك بالتدبُّر لآيات القرآن الكريم؛ فإن في ذلك خيرًا كثيرًا. قُمْ برعايتك والديك، وقبِّل رأسهما كل مساء، والزمهما بالطاعة والبر؛ فإن ذلك من أعظم فرص استغلال شهر رمضان. صِلْ أرحامك وتعاهد جيرانك؛ فإن ذلك من خلق المسلم.
وإنني إذ أدعوك إلى التمعُّن في هذه الأحاديث إنما أدعوك للتحرر من الكسل، واستقبال الآخرة،
والإقبال على عشر رمضان الأخيرة، ففيها -بإذن الله تعالى- سر السعادة المرتقبة التي تبحث عنها،
وإنما حين أقرر لك أن هذا هو طريق السعادة آمل منك أن تجرِّب هذا الطريق، ولن تجد أجمل منه ولا أسعد على وجه هذه الحياة! وهؤلاء الذين تراهم في مجتمعك تبرق أسارير وجوههم بالاستقامة هم كانوا مثل ما أنت فيه الآن من الحيرة والاضطراب والهمّ والغمّ، وخاضوا هذه التجربة في بداية حياتهم، وحينما وجدوا المفقود والسر الغائب في حياتهم قرروا التوبة، وهم اليوم -وكل يوم- يرددون قول القائل: والله إنها لتمر بي ساعات يرقص فيها القلب فرحًا من ذكر الله. ويلهجون بقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. وفقك الله، وسدد خطاك، وعلى طريق الخير بإذن الله تعالى نلقاك[3].