رحلة غرق

وقفت هالة على الشاطئ .. رمت بالحذاء جانبا وصارت تحدق بالبحر للحظات .. كانت الأمواج تلتطم بقدميها .. و لم يكن هناك أحد غيرها في المكان .. فأحبت ذلك الهدوء .. أغمضت عينيها وصارت تبوح بأسرارها للبحر قائلة .... آه يا بحر كم أتمنى ان أتحول إلى حورية فتأخذني أمواجك بعيدا لأبحر في أعماقك بحرية .. أو أتحول إلى سمكة صغيرة بحجم البذرة حتى لا توقفني أسماك القرش وكي لا تراني عيونها فتلتهمني ... فأسبح إلى حيث لا وجود لما هو موجود في عالمي فأعبر المحيطات .. آه لو تأخذني في رحلة غرق بعيدا عن حينا الشعبي .. حيث الحياة هناك مثل كابوس مرعب ...
لا أدري ما أقول لك يا بحر .. لكن منذ ان صار عمري في الخامسة والثلاثين تدهورت حالتي لأنني الوحيدة التي لم تتزوج بعد في حينا ... سكتت هالة قليلا ثم أكملت قائلة زرت كل الجيران .. ووقفت على الأبواب حاملة أطباق الحلويات أتباهى قائلة هذه من صنع يدي ... و تحولت إلى خادمة في بيوتهم ... على أمل أن أعجب أحدهم ... لكن للأسف جميع شباب الحي تزوجوا من بنات العشرين وتركوني وراءهم كقطعة بالية .. وأصبحت نساء الحي ينظرن إلي وكأنني جرثومة خبيثة ينتظرن اقتلاعي من الحي و يشعرن بالخوف على ازواجهنّ منّي ... وحين أقابل احداهن تسألني أما زلت هنا ..؟ ألم تتزوجي بعد ..؟ كل بنات الأحياء المجاورة لحينا تزوجن ... وأكبر بناتهم اليوم في الخامسة عشر وأنت يا مسكينة .. ماذا أقول لك ... استفزني كلامها وقلت لها إنني والحمد لله أعيش في بيت والدي معززة مكرمة لا أدق الأبواب طالبة الصدقات من سكان الحي ... فردت قائلة بنت عانس و معقدة وأنانية .....
آه ..آه .. يا بحر.. قبل أيام زارتنا جارتنا نوال وقالت لي إنّ أخي أعجب بك ... لذا جئت أخطبك له فما رأيك ؟ ابتسمت وقلت في نفسي يا فرحتي وأخيرا سأتزوج بسفيان الشاب المثقف المهندس في بلاد المهجر ..و حين رأت انني لم أرد عليها ... قالت ... هل أنت موافقة ؟ قلت لها لا أظنّ أنّ هناك فتاة سترفض الزواج بسفيان ... ضحكت بسخرية .. وقالت حبيبتي سفيان تزوج قبل شهر ... بل إنّ أخي الذي يريد الزواج بك هو الحاج علي .. صرخت قائلة ... أخوك العجوز إنّ هذا لأمر عجيب ... أنا لست للزواج بالعجائز ... قالت ما بال أخي لا يعيبه شيء له مال وله عمارات وأراضي لا تعد ولا تحصى المسكين منذ أن ماتت زوجته وهو يبحث عن عروس .. قالت لها أمي وكم عمر الحاج علي ؟ ردت قائلة تقريبا في عمر زوجي ... قلت لها وكم عمر زوجك ؟ قالت .. تقريبا في خمسين ... سألتها قائلة هل عمر الحاج علي في الخمسين ..؟ ردت .. أكثر قليلا .. قلت لها في الستين ... ؟ قالت أكثر قليلا .. قلت في السبعين .. ؟ قالت أكثر قليلا ... قلت إذن في المائة ... قالت .. لا ..لا ..لا أقل بكثير .. أخي ما زال شابا عمره تقريبا في ... الثمانين ... صرخت قائلة أتريدين أن أتزوج برجل في الثمانين ..؟ ما بك هل جننت يا امرأة ..؟ قالت أخي أفضل من الشباب الذين تزوجوا ببنات الحي .... فمثلا .. كوثر تشبه عارضات الأزياء تزوجت بشاب طوله ربع متر وهو أصمّ وأبكم .. أمّا لمياء المعلمة تزوجت بشاب جاهل لا يعرف كتابة اسمه وعاطل عن العمل ... ونادية الجميلة الناعمة تزوجت بشاب يشبه المسخ ويعاني من اضطراب في السلوك يلكمها ليلا ونهارا وامام الشهود ومع ذلك تقول للجميع إنّه رجل مثالي و رومنسي .. قاطعتها أمي قائلة ألا يعاني أخوك من مرض ما ..؟ ردت .. بلى ولكن المرض الذي يعاني منه أخي ليس بالخطير .... . فقلت لها أيعاني من داء السكري ؟ قالت .. لا .. قلت مرض البروستات .. ؟ قالت لا .. قلت مرض الكلي وما شابه .... ؟ قالت لا .. صرخت قائلة إذن يعاني من الزهايمر .. ردت بصوت عالي بلى عزيزتي إنّه هو الزها...ي ..م .. الحقيقة لا أعرف النطق بتلك الكلمة الزه ا ..ي..... مر..
آه ... ثمّ آه ... يا بحر أتخيل أنني أتزوج بذلك العجوز .... وحين تشرق الشمس في صباح شبابي الضائع ... سيفيق من نومه مرعوبا ويوقظني بصراخه قائلا من انت ..؟ من أنت يا امرأة ... ؟ من أين أتيت ؟ أستيقظ مصدومة من هول الفاجعة فأقول له أنا زوجتك ... فيقول منذ متى تزوجنا ؟ فأقول بالأمس يا حبيبي ... ألا تذكر ... ؟ فيرد قائلا لا أذكر... فأقول له ... لقد أقمنا حفل الزفاف ليلة أمس و حضر أولادك العشرة وأحفادك الثمان والعشرون . فيقول لي ....هل أنجبت معك كل هؤلاء الأولاد ...؟ فأقول لا يا ... لقد أنجبتهم مع زوجتك الراحلة .....المرحومة التي ارتاحت ..وأخذت مكانها ... ألا تذكر يا حاج علي ؟ فيقول والله لا أذكر ... ثمّ يسألني وما اسمك يا حلوة ؟ فأقول هالة التعيسة ....
آه يا بحر كم أنا تعيسة سأقضي ليلة عمري مع رجل لن يتذكر منها حتى اسمي ... وأتخيل أن تلك الاسئلة سيسألني إيّاها كل صباح و أنا أجيب اضطرارا عليها إلى أن يموت لأصبح وريثة للمال و الزهايمر ... أو أموت أنا شهيدة زواج قاتل...و يا لها من نكسة .... نكسة عمري وشبابي وحياتي كلها ...
إذ بهالة تهمس للبحر سمعت صوتا غريبا وراءها ... .. فتحت عينيها و التفتت إلى الوراء .. تفاجأت بما رأت ... أصيبت بصاعقة هزّت جسدها ... تسارعت دقات قلبها ... ولم تدري ما تفعل .... لقد كان هناك شاب وسيم يقف أمامها كصنم ... وهو شبه عاري ... حين رأته أغمضت عينيها وقالت في نفسها يا الله ماذا عساي أفعل ؟ ما هذا الكابوس ؟ من أين أتى هذا التمثال البشري ؟ أأهرب ؟ ولكن إلى أين ؟ البحر ورائي والكابوس أمامي ... أأرمي نفسي بالبحر لأغرق ؟ أم أ ركض بعيدا ؟ وإن لحق بي ماذا سيحدث ؟ ستصبح فضيحتي على كل لسان في الحي .... والسيدة نوال ستفرح لمصيبتي ... يا الله أرسل زوبعة لتأخذني وترميني فوق سطح بيتنا ... . سكتت قليلا وقالت وهي تهمس لنفسها قائلة .... لما أنا جبانة وضعيفة ... سأفتح عيني وأقول له ... تعالى معي إلى حينا لنتزوج ... فوالدي ينتظر أحدا يدق باب بيته لطلب يدي للزواج منذ أن بلغ عمري الخامسة عشر ولا تقلق من الملابس فانا سأعطيك واحد من السراويل التي أرتديها ... لأنّني أرتدي سروالين تحت الجلباب ... فوالدي قبل أن أخرج دائما يسألني هل ارتديت سروالا تحت الجلباب ؟ .فأرد .. بلى يا أبي .... فيقول لي ... اسمعي نحن نعيش في بلاد فيه حرب أهلية على الطرقات ... لقد رأيت امرأة صدمتها سيارة .... وحين سقطت ميتة على الأرض ..طار جلبابها إلى السماء وصار زوجها يبحث عن شيء ما يغطيها به ........
آه على أبي يتوقع موتي مرمية على الطرقات .. ومن اجل ذلك أرتدي سروالين للاحتياط .. لو تمزق واحد يبق الآخر ....
فتحت هالة عينيها فإذ بها تجد الرجل قد اختفى قالت الحمد لله ...كان وهما وخيالا و كابوس يقظة ... ضحكت وابتعدت عن الشاطئ وقالت في نفسها ذلك الرجل كان شبحا ... وإذ بها تمشي مبتعدة عن الشاطئ ... أوقفتها سيدة مع زوجها قائلة هل رأيت ابني ... ابني الصغير ؟ قالت هالة لا سيدتي لم أرى أي طفل .... قالت السيدة ابني ليس طفلا بل شاب .. نظرت هالة إلى زوج السيدة وإذ تراه يحمل في يده قميص وسروال .. فقالت ... أظنني رأيت ذلك الشاب ... قالت السيدة أين رأيتيه ؟ ردت هالة كان على الشاطئ .. حين رأيته أغمضت عيني فقد خفت منه .. قالت السيدة لما اغمضت عيناك ؟ ابني قال سينتحر .. لما لم تنقذيه ؟ قالت سيدتي أنا أيضا كنت أحتاج لمن ينقذني فكيف أنقذه ؟ لقد كانت لحظة حرجة .. و .. قالت السيدة يا لك من قاسية ابني مريض .. المسكين ضيع عقله .. ردت هالة ..عجبا .. ابنك ضيع عقله وتريدين منّي أن أضيع عمري ؟ ذهبت السيدة ساخطة على هالة تشتم وتسب وكأنها وراء ما أصاب ولدها المعتوه .....
غادرت هالة الشاطئ وصارت تتمشى في شارع يؤدي إلى وسط المدينة ... حيث كان هناك مجموعة من الناس يركضون حاملين بين أيديهم الشراشف والاغطية ويقولون غطوا الرجل ...غطوا ... فسألت هالة امرأة عجوز قائلة اعذريني يا حاجة ماذا هناك ... ؟ فردت السيدة العجوز قائلة آه يا ابنتي انه ابن الجيران مروان .... الشاب المسكين ضيع عقله حين كان يدرس في الثانوية لم يحصل على المعدل الذي يخوله للدخول لكلية الطب فصرخ بأعلى صوته ثم سقط على الأرض وحين استيقظ صار في تلك الحال... قالت هالة يبدوا أن الشاب فضل رحلة غرق على البرّ على رحلة موت في البحر .... ردت السيدة .. أتعرفين الشاب ؟ قالت هالة .. لا .... لا ... إلاّ المجانين .......
غادرت هالة المكان .. أوقفت سيارة أجرة ثمّ رحلت إلى حيها الشعبي و أملها ان يكون الحاج علي ذهب في رحلة غرق ما ... كي لا تذهب معه في رحلة غرق في الحياة .........
تمت

مشكووووورة اختي هويدة

سلمت يمناك

مميزة دوما بمواضيعك الرائعة

مشكوراااااااااااااااااا ميرسيييييييي